القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين
طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد الدورة الـ20 للجنة التراث الثقافي غير المادي في العاصمة الهندية نيودلهي ما بين 8 و13 ديسمبر الجاري.
خلال هذه الدورة كان "القفطان" هو سبب حرب "داحس والغبراء" بين الوفد الجزائري الذي حاول "السطو" على هذا اللباس التقليدي المغربي التراثي والتاريخي، وبين الوفد المغربي الذي وضع ملفا لدى اليونسكو لتسجيل هذا اللباس العريق باسم المغرب، تراثا عالميا اكتشفه العالم من خلال الصناع التقليديين المغاربة في فاس ومراكش وتطوان ومكناس والرباط وتطوان..
وخلال أيام من النقاش الحاد، وظف الوفد الجزائري كل أساليب المكر، واستعان بخبراء دوليين، واجتهد في فتح ثغرات قانونية، وتأويلٍ لأكثر من نصٍ وفصلٍ في الملف المغربي، ومع ذلك، حسمت المنظمة الأممية قرارها بتسجيل القفطان باسم المغرب ضمن قائمة التراث الإنساني غير المادي.
وإن كانت "معركة القفطان" قد انتهت، فإن الجزائر لن تكتفي، بل ستعود للمنظمة في محاولة تسجيل عناصر تراثية أخرى لدول مجاورة، باسمها، في رحلة مُرهقة لـ"جمع هوية" تاريخية مفقودة، في ظل وجود نظام عسكري متحجر يعيش على ريع الذاكرة كما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إحدى تصريحاته.
ومنذ استقلالها سنة 1962 عن فرنسا من خلال استفتاء، عاشت الجزائر مشكل هوية تاريخية، بعد أن فقد الإنسان الجزائري كل ارتباط ثقافي وهوياتي بأرضه على مدى قرون، توالت على حكمه الكثير الكيانات من السياسية والإمبراطوريات، وتشكل وَعيه من خلال العديد من الروافد الثقافية للدول المجاورة، حيث لم تكن الجزائر دولة أو كيانا سياسيا منظما، بل كانت قبائل متناحرة، وإمارات صغيرة تناوب على حكمها العديد من الدول والإمبراطوريات المجاورة مثل ما هو الحال حينما كانت تابعة لمملكة الوندال الجرمانية التي أسست مملكة في شمال إفريقيا، وجعلت من "قرطاج" تونس حاليا، عاصمة لها، في القرن الخامس الميلادي.
ثم، بعد ذلك، الإيالة البيزنطية التي تعد جزءا من الإمبراطورية البيزنطية التي حكمت الجزائر ما بين 533 – 647م، ثم الدولة الأغلبية التي كان مركزها تونس حاليا، حيث ضمّن الأغالبة الجزائر لما يقارب المائة سنة، ثم الدولة الفاطمية التي حكمت الجزائر ومدنها مثل (تلمسان، الجزائر، بجاية، قسنطينة، عنابة..) لمدة 60 سنة، خلال القرن العاشر الميلادي، قبل أن يحكمها المغاربة من خلال الدولة المرابطية، لمدة 100 سنة.
وبعد ذلك، حكمت الدولة الموحدية التي كانت عاصمتها مراكش بالمغرب، ما يسمى اليوم بالجزائر ما بين (1147-1269م)، قبل تأسيس الدولة الزيانية أو مملكة تلمسان التي يعتبرها الجزائريون أول دولة مستقلة لهم تاريخيا.
غير أن حُكم الزيانيين لم يدم طويلا، حيث احتلت إسبانيا أجزاء كبيرة من مدن الجزائر الساحلية، تلاها احتلال وسيطرة للدولة العثمانية على كل الأرض بعد أن أصبحت البلاد إيالة عثمانية ما بين 1516–1830م، أي 312 سنة، وهي الحقبة الأكثر تأثيرا في الإنسان الجزائري هوياتيا، حيث تأثرت أربعة أجيال عاش من خلالها الجزائريون تحت كنف العثمانيين الذين أورثوا أسماءهم، وتزوجوا من نساءهم، وحملوا أنسابا مشتركة، وغرسوا ثقافة عثمانية مازالت حاضرة إلى اليوم في الأكل واللباس والزخرفة، والكثير من الأصول في العائلات الجزائرية.
كل هذه الحقب التاريخية، والدول التي حكمت الإنسان الجزائري على مدار قرون طويلة، أثرت في هويته التي لم تعرف الانسيابية التاريخية كما هو الحال في المغرب، حيث كانت الإمبراطوريات تؤسس على أنقاض إمبراطوريات أخرى، وعائلات تحكم،وتأتي أخرى من نفس الثقافة والهوية والعرق والقبائل، وتكون امتداد تلاقح وإرث تاريخي، وهو ما جعل المغاربة يحافظون على الكثير من مخزونهم التراثي والثقافي على مدى قرون طويلة، مثل اللباس والأكل والعادات والتقاليد الموروثة إلى يومنا هذا.
من بين هذا الموروث الثقافي هناك القفطان والكسكس والزليج والجلابة والكثير من الرموز الثقافية التي تشكل الهوية التاريخية للإنسان المغربي، وتجعله مرتبطا بالأرض لأنها تمثل له الجذور التاريخية لهويته وثقافة وكيانه.. هذا الارتباط، عملت الدول المتعاقبة علي حكم الأرض الجزائرية على محوه عند الإنسان الجزائري، مثل ما فعلت الدولة العثمانية، وبعدها فرنسا التي استعمرت الجزائر 132 سنة، ساهمت خلالها في إرباك هوية الإنسان الجزائري الذي تعاقبت عليه ثقافات متعددة كانت كل واحدة تحاول محو ما سبقها، وهو ما جعل الإنسان الجزائري مهزوز الهوية شغوف بذاكرة تاريخية لغيره تعزز هويته الثقافية وانتمائه للأرض.
هذا الفراغ الهوياتي، استغله النظام العسكري الحاكم منذ عهد إبراهيم بوخروبة المعروف بهواري بومدين، حيث عمد على زرع ثقافة "النيف"، وجعلها هوية نفسية وثقافية للجزائريين، والاجتهاد ولو بتزوير التاريخ لصناعة ذاكرة وهمية، وعظمة موهومة للجزائري.
كل هذه العوامل أنتجت ما رأيناها خلال الأيام الماضية، حيث كانت الجزائر تصارع على تصنيف القفطان كهوية مشتركة مع المغرب بحثا عن هوية مفقودة لم تستطع تكوينها للإنسان الجزائري، فأرادت أن تتشارك فيها مع المغاربة.
القفطان، الزليج، الكسكس، وحتى صومعة الكتبية.. كلها رموز ثقافية لا مادية للمغاربة طالب بها النظام الجزائري وغرس ثقافة خادعة للجزائريين على أنها إرث وجزء من التراث الجزائري الذي تم السطو عليه، وهي عقد نفسية ستستمر لعقود مقبلة إن بقي النظام العسكري الأوليغارشي الذي يحكم البلاد يغذي وعي الجزائريين بأن تاريخهم لا يوجد تحت أرض يسكنوها، بل في أرض دول تجاورهم!




